عندما يكتب القلب عن الحب

 

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

الحب ليس شعورًا عابرًا، ولا كلمة عابرة تُقال بين السطور؛ بل هو القوة التي تجعلنا نحيا بصدق، القوة التي تُضفي على أيامنا لونًا خاصًا، وتمنح لحظاتنا معنى أكبر من حياتنا نفسها. هو الحضور الصامت في القلب، الذي يجعل كل يوم مختلفًا عن سابقه، ويجعل كل لحظة تتحول إلى حياة نابضة، تملأ الروح بالدفء والسكينة. الحب يزرع فينا الصبر، والرحمة، والوفاء، ويعلّمنا أن العطاء الحقيقي لا ينتظر مقابلًا. إنه البذرة التي تنمو منها إنسانيتنا، فنصبح أكثر قربًا من ذواتنا، وأكثر إدراكًا لقيمة من حولنا.

الحب له أشكال متعددة: الحب بين قلبين، الحب في العائلة، الحب بين الأصدقاء، وحتى الحب للآخرين الذين نعتني بهم ونحترمهم. كل شكل يضيف للحياة معنى، يجعلنا نحس بالاكتمال، ويمنحنا القدرة على المشاركة، على الفهم، وعلى العطاء. الحب ليس مجرد شعور، بل فعل كل ثانية، كل دقيقة، وكل يوم؛ اهتمام مستمر، إحساس دائم بأن الآخر موجود في قلبنا وروحنا، حتى لو كانت المسافات بيننا بعيدة.

الحب يظهر أيضًا في التفاصيل الصغيرة: نظرة صادقة تفتح بابًا من الطمأنينة، ابتسامة خفية تحمل خلفها ألف رسالة، كلمة هادئة تُشعر القلب بأنه ليس وحيدًا. تلك التفاصيل التي يظنها البعض بلا قيمة هي في الحقيقة العلامات الأجمل، لأنها تترك أثرًا عميقًا دون أن تحتاج إلى إعلان أو ضجيج. وعندما يكون الحب صادقًا، يصبح الصمت لغةً قائمة بذاتها، أبلغ من أي كلام، وتغدو الكلمة الصادقة المختصرة أكثر عمقًا من كل خطاب مطوّل.

أما الشوق؛ فهو قلب الحب النابض. عندما يغيب من نحب، يصبح كل مكان يذكرنا به، وكل لحظة بدونه محمّلة بالغياب. الشوق ليس ألمًا فحسب، بل هو قوة خفية تعيد للحب دفئه في كل لقاء. إنه الشعور الذي يجعل اللقاء بعد الفراق أكثر اكتمالًا، وأكثر قدرة على كشف عمق المشاعر. الشوق يعلّمنا أن الحضور لا يقاس بالقرب الجسدي وحده، بل بالقدرة على أن يكون الآخر حيًّا في قلوبنا رغم المسافات. إنه ما يجعلنا نحتفظ بالماضي الجميل، ونتطلع إلى مستقبل نتخيله معه حتى وهو بعيد.

واللقاء في الحب ليس مجرد اجتماع عابر، بل تجربة تواصل بين روحين. حين نلتقي بمن نحب، يتجاوز الأمر حدود الجسد أو تبادل الكلمات، ليصبح حالة من التماهي الصامت، حيث تشعر الروح أنها وجدت نصفها الآخر. ولعل الفقد هنا هو الوجه الآخر لهذه المعادلة، لأنه يجعلنا أكثر وعيًا بقيمة اللقاء، وأكثر إدراكًا لأهمية اللحظة الصادقة التي عشناها.

أما الوداع والفقد، فهما الجزء الأصعب الذي يواجه الحب والأكثر إيلامًا؛ ففي لحظة الوداع، نشعر أن جزءًا من أرواحنا يغادرنا، وأن القلب فقد شيئًا من نبضه. غير أن الفقد لا يلغي الحب، بل يثبت صدقه؛ لأنه يبقى حاضرًا في القلب مهما غاب صاحبه. قد يكون الوداع صامتًا، لكنه يصرخ في أعماقنا بكل الحنين. ومع ذلك، نتعلم أن الحب الحقيقي لا ينطفئ بالغياب، بل يظل حيًّا في الذاكرة، نابضًا في الروح، يستمر معنا ما دمنا نحيا.

وعندما يكتب القلب عن الحب، فإنه يكتب أيضًا عن الأمل: أمل اللقاء مهما طال الغياب، أمل الوفاء رغم المسافات، وأمل أن الحب حاضر دائمًا، في كل مكان، في كل لحظة، في كل نبضة قلب. الأمل يمنح الحب قدرة على التحمل والصمود، ويعلّمنا أن الغياب ليس نهاية، بل محطة عابرة تزيدنا يقينًا بصدق المشاعر.

الحب كذلك يُغيّرنا من الداخل، فيجعلنا أكثر قوة ورحمة، وأكثر قدرة على إدراك عمق الحياة. إنه القوة التي تجمع بين العطاء والقبول، بين الشغف والسكينة، بين الحنين والراحة. يضيء أيامنا الرمادية، ويمنحنا استعدادًا لاستقبال الجمال في أبسط التفاصيل. يجعلنا نرغب في الخير، في التضحية، في العطاء دون حساب، لأنه وحده ما يجعل الحياة أكثر إشراقًا حتى في أصعب اللحظات.

الحب هو النور الذي يضيء دروبنا، وهو الهمس الصامت في قلوبنا، وهو القوة التي تدفعنا إلى الأمام. هو ما يجعلنا نعيش بصدق، ونكتب من القلب، ونحافظ على دفء أرواحنا مهما تغيّر الزمان.

وفي الختام، يبقى الحب أكثر من مجرد شعور؛ إنّه أساس وجودنا، ودفء أيامنا، وأثرنا الخالد في القلوب. هو الجسر الذي يربط بين الناس والأرواح والقلوب، وهو الذي يجعل لحياتنا معنى أسمى، ومعه ندرك أن أجمل ما في الإنسان أن يحب ويُحب، وأن هذا وحده يكفي ليجعل الحياة جديرة بأن تُعاش.

وكما قيل في أجمل البوح: "وما الحب إلّا أن ترى في من تُحب الجمال كله، وفي قلبك يكتمل كل شيء".

 

الأكثر قراءة